آخر المقالات

الأربعاء، 29 أغسطس 2007

فصول من كتاب حرب فلسطين: مذكرات جمال عبد الناصر ويوميات محمد حسنين هيكل -الاخيرة




فصول من كتاب حرب فلسطين: مذكرات جمال عبد الناصر ويوميات محمد حسنين هيكل (الاخيرة) ناصر: في عراق المنشية كان الله معنا وعشنا نصرا اشبه بمعجزات السماء ورد العدو علينا بضرب حاقد مفلوت الاعصاب!حصار في الفالوجة. حرب نفسية ومنشورات لدفع ناصر وجنوده للاستسلام ولقاء مع ضابط اسرائيلي طلب سحب جثث قتلاه


منقول من القدس العربي
29.08.2007


محمود صلاح
سوف تظل حرب فلسطين أحد أهم الفصول في كتاب تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي ـ مهما مضت سنوات الزمان.هذه الحرب التي كانت لها مقدماتها وأحداثها وتداعياتها.
أما المقدمات فقد كانت انعكاسا لحال مصر السياسية أيامها. وحال الأمة العربية أيضا. وأما تداعياتها فأغلب الظن أنها باقية حتي اليوم.وتبقي أحداث حرب فلسطين 1948 برغم السنوات التي انقضت عليها. مثل كرة بللورية مليئة بالانعكاسات والأشكال المختلفة. تختلف رؤيتها باختلاف الراوي والسامع.ومهما كتب عن حرب فلسطين ومهما اجتهد المؤرخون وأصحاب الآراء والتحليلات.
تظل شهادات الأبطال هي الأقوي والأوضح تأثيرا.وهذه شهادة اثنين من أبطال هذه الحرب..الأول.. ضابط مقاتل عاشها وواجه الموت بالرصاص فيها. ووسط ظلام خنادقها ورائحة البارود والموت عرفه العدو الحقيقي.
واكتشف طريق النور لنفسه ولشعبه.الثاني.. كاتب صحافي نادر. حمل قلمه الي ارض المعركة. وارتدي الملابس العسكرية لأول مرة في حياته. وسجل بأمانة لبني قومه تفاصيل هذه الحرب وما سبقها وما حدث فيها.وعلي السطور القادمة تفاصيل شهادة الاثنين.
.الله.. كان قائدنا في تلك المعركة
وسط عتمة خيبة الامل التي كانت نتيجة حرب فلسطين 1948 كانت هناك اضواء قليلة ـ لكنها حقيقية ـ كانت بريقا وانعكاسا صادقا لشجاعة المقاتل المصري.
وسوف تظل معركة عراق المنشية علامة بارزة في سيرة حرب فلسطين مهما اختلف الناس حول تقييم سيرة هذه الحرب.كان قدر جمال عبد الناصر الشاب اركان حرب الكتيبة السادسة والتي كانت مكلفة بحماية عراق المنشية ان يشهد بعينيه وان يشارك بنفسه في المعركة الكبيرة التي دارت هناك التي استخدم فيها اليهود لاول مرة في حرب فلسطين الدبابات.
كانت دبابات القوات اليهودية قد ظهرت فجأة في المعركة ..اخذت تصب نيرانها في كل اتجاه. واصابت المدفعين الوحيدين المصريين المضادين للدبابات!وهرع جمال عبد الناصر تاركا مركز رئاسة الكتيبة وهو يحمل في يده مدفع تومي جن بعد ان ادرك ان الوقت ليس وقت خطط. وانما والمعركة حامية لا بد من الهجوم علي القوات اليهودية وتدمير دباباتها بأي وسيلة.
اسرع جمال عبد الناصر والقنابل تطير فوق رأسه كالموت الطائر يدفع من تبقي من القوات المصرية الي الهجوم. فخرج الجميع مقاتلين وغير مقاتلين حتي السائقون والطباخون. خرجوا يواجهون العدو بما وصلت اليه ايديهم من سلاح.ہہہويكمل جمال عبد الناصر تفاصيل المعركة في مذكراته قائلا:
كانت المعركة تبدو للوهلة الاولي محاولة يائسة !ولكني عندما التفت الآن الي الوراء الي سبع سنين مضت علي وجه التقريب علي هذه المعركة ـ المذكرات كتبها عبد الناصر عام 1955 ـ وحين تستقر ذاكرتي علي تفاصيلها العجيبة لا استطيع ان امنع نفسي من ان اقول:- لقد كان ذلك يوما من اروع ايام حياتنا!حين امضي اكثر واكثر استعرض الذي حدث.
فقد ظهرت دبابات العدو لأول مرة تهدر في الطريق الي مواقعنا. منذ اكتسحت هذه الدبابات مواقعنا اخترقت نطاقات الدفاع المعدة حولها. ومنذ اقتحمت هذه الدبابات طريقا لنفسها حتي وصلت الي قلب عراق المنشية.ومنذ خرجت من مبني الرئاسة حيث لم يعد يجري تنظيم لكي ادفع كل رجل قادر علي حمل السلاح الي ان يحاول بجسده ان يوقف تقدم الدبابات.
حين استعرض هذا الذي حدث بكل دقائقه..ثم اتذكر كيف تطور هذا الموقف في ساعة واحدة، اعود فأقول:- كان قائد هذه المعركة.. هو الله!كان كل شيء يتطور بسرعة غير معقولة..كانت فصيلة الحمالات قد تقدمت الي وسط حقل مزروع بالتين الشوكي. وكانت مدافع البيات الصغيرة التي تستطيع مقاومة الدبابات من مسافة قريبة جاهزة في ايديهم كانوا في انتظار من يصدر اليهم امرا.
وكانت الاوامر التي بعث بها اليهم مع احد الضباط ان يتقدموا ليقفلوا الثغرة التي فتحها العدو في خططنا وتسرب منها الي داخل نطاق دفاعنا.وكان الهجوم متجها اليهم!وكانت كل الاصول والقواعد تفرض عليهم ان يعودوا الي الوراء.مع ذلك فاني حين طلبت الي الباشجاويش ان يتقدم ويصمد لم اجد الا حماسة منطلقة لا تلوي علي شيء.تسلل احد منهم وسط التين الشوكي وفي يده مدفع البيات وعلي اعصابه تصميم في متانة الصلب. وظل ينتظر دبابة العدو حتي اصبحت علي بعد عشرة امتار منه ثم اطلق عليها مدفعه.
واذا الطلقة تصدمها مباشرة تمزقها في لمح البصر!في نفس الوقت ..كان ضابط الفصيلة التي اكتسحها العدو ومرّ فوق مواقعها يمسك مدفع بيات آخر. يصوبه ويطلقه من بعد امتار قليلة. فاذا دبابة ثانية تنفجر وتتمزق!
لقد انتصرنا علي العدو
يكمل جمال عبد الناصر في مذكراته بقية تفاصيل المعركة المثيرة ويقول:ومضي اليه.. القائد الذي يدير معركتنا يواصل عمله المقدس. فاذا احدي الدبابات. دبابة ثالثة. تنفجر. اذا بها قدمت لغما من الالغام التي كنا قد زرعناها علي الارض ـ ما كان اقلها ـ حول مواقعنا !هكذا بسرعة لم يقدرها احد، تعطلت ثلاث من دبابات العدو الستة المتقدمة.
احس باقي القطيع من الدبابات ان الامر قد يتطور علي غير ما كان متوقعا. فاذا هي تدير نفسها تعود مضطربة الي حيث اتت!لم اكن استطيع من مكاني ان اتابع الذي يجري كله في نفس الوقت..كانت هناك دقائق من الفوضي والغموض. هي دائما من مستلزمات المعارك اليائسة.لكن بدأت احس ان الموقف في كل ناحية قد تغير.
بدأت مدافع العدو تدك مواقعنا.وكان لذلك دلالة هامة. معناها ان العدو سحب جنوده من حيث كانوا استطاعوا التقدم الي خطوطنا، والا لما كان استعمل المدفعية لكي يصيبنا ويصيب جنوده معنا!ثم مر من امامي وانا واقف. القنابل تنشر مظلة مروعة فوق عراق المنشية. جندي يحمل بندقية جديدة!ولمحت البندقية ناديته اسأله من اين جاء بها؟قال الجندي بسذاجة مرحة تلعلع الفرحة في نبراتها:
- من اليهود يا افندي!ثم بدأت التفاصيل تتجمع في يدي..لقد انتصرنا علي العدو.علي الاقل صمدنا امام هجوم بدا ساحقا للوهلة الاولي لدرجة ان مواقعنا ديست بدبابات العدو. ثم استطاع جنودنا ان يستردوا الارض التي فقدناها ويردوا العدو علي اعقابها بعد ضياع نصف عدد دباباته تماما وتعطيله!
وكان خير دليل علي غيظ العدو وجنونه ما حدث هذا الضرب المركز بالمدفعية علي عراق المنشية.. كان الضرب حاقدا مفلوت الاعصاب!
وعدت الي مركز الرئاسة..كنت قد غادرته منذ ساعة والهزيمة تكاد تهوي فوق رؤوسنا.ها انذا اعود اليه بعد ساعة. عشنا فيها نصرا اشبه بمعجزات السماء ولقد كنت ادرك ان الامر لن يبقي طويلا علي هذا الوضع.كان لا بد للعدو ان يعاود الكرة.لسوف يدكنا بمدافعه كما يشاء له جنونه. وبعدها يعود الي الهجوم علينا. حين يدرك ان قنابله حطمت مراكزنا وارواحنا ايضا!لم يكن عندي وقت اضيعه..وابلغت ما حدث بالتفصيل الي قيادة اللواء.
وطلبت بأسرع ما يمكن اي عدد من المدافع المضادة للدبابات.لقد كنت ادرك اني اطلب مخاطرة. فان الطريق المؤدي الينا يضربه العدو. ويسيطر عليه عند كراتيا. ومعني ذلك ان القوة التي ستأتيني بالمدافع سوف تعرض نفسها لخطر كبير. مع ذلك فان ضابطا شابا باسلا قام بثلاث سيارات بإحضار اربعة مدافع. وملأ سيارتين فيها بذخيرة الهاون استطاع ان يصل الينا تحت النار.طلبت له نيشانا حتي نشعره بتقديرنا..وظللت بعد الحصار اجري وراء النيشان.. حتي حصل عليه صاحبه اخيرا!
واعدت تنظيم صفوفنا علي الوضع الجديد..وضعت ثلاثة مدافع مضادة للدبابات عند المنطقة التي هجم منها العدو. كنت اتوقع ان يعود منها اذا كرر الهجوم. فقد تصورت ان العدو سوف يعتقد اننا سنحتاط له في كل مكان الا المكان الذي هاجم منه فعلا ولم ينجح!في الساعة العاشرة صباحا..
الهجوم الثاني
بدأ العدو هجومه الثاني العدو هجومه :
تقدمت ست دبابات تقدمت في اطمئنان وهدوء واثقة اننا لا نملك مدافع مضادة للدبابات والا كنا استعملناها في الهجوم الاول!ظلت مدافعنا المضادة للدبابات لازمة الصمت بينما مدافع الهاون وحدها هي التي تطلق النار من خطوطنا.
ثم جاء الوقت الذي كان يجب ان تثبت فيه مدافعنا المضادة للدبابات وجودها. فقد اقتربت الدبابات من الاسلاك حول مواقعنا.انطلقت المدافع الثلاثة في نفس واحد. اصيبت دبابتان من دبابات العدو.
واستدارت باقي الدبابات عائدة وقد اذهلتها المفاجأة!حاولت دبابات العدو مرة اخري عند العصر ان تتقدم..لكن النار القوية التي واجهتها. جعلتها تقنع بالعودة دون اشتباك.وهكذا حين جاءت الساعة الخامسة مساء..كانت الروح المعنوية في كتيبتنا اعلي واقوي مما كانت في اي يوم من الايام.وخرجت امر علي الجنود..كانت الثقة بالنفس تطل من عيونهم.
كان التصميم الاكيد يطبع كل حركاتهم.كنت سعيدا وفخورا..والشيء الوحيد الذي كان يضايقني. ان كثيرا من زملائنا في السلاح من الجند والضباط. قد سقطوا علي ارض المعركة. كانت الارض التي سقط عليها بعضهم تروي قصصا عجيبة عن الشجاعة والفداء!
لقد عثرت احدي دورياتنا التي خرجت في الليل تبحث عن جثث بعض السائقين والطباخين الذين انطلقوا للمعركة اليائسة عثرت عليها بعد الاسلاك الشائكة التي تحمي مواقعنا.
وان معني ذلك ان هؤلاء الجنود الاشداء لم يكتفوا بأن يردوا العدو بل خرجوا لمطاردته علي الارض الحرام بين خطوطنا وخطوطه!ويواصل جمال عبد الناصر تسجيل التفاصيل المثيرة لما حدث في عراق المنشية في مذكراته قائلا: وجلست في تلك الليلة من مركز رئاسة كتيبتنا احاول ان اتصور الموقف كله.
.افشلنا خطة العدو
لقد كان الذي لا يقبل الشك في تصوري. ان هجوم العدو علينا في عراق المنشية جزءاً من خطة عامة. ولقد فشل العدو امام مواقعنا. فماذا جري لخطته العامة؟ هل سيحاول تنفيذها في مكان آخر؟!
ولو كانت لي القدرة علي الرؤية البعيدة يومها لعلمت ان ما كنت اتصوره لم يبتعد كثيرا عن الحقيقة!كانت للعدو فعلا كما اثبتت التصورات بعد ذلك خطة عامة.كانت هذه الخطة مبنية في مرحلتها الاولي علي اختراق مواقعنا.
فلما فشل العدو في محاولته معنا لجأ الي طريق آخر. فهجم علي تقاطع الطرق عند عراق سويدان.ومرة اخري لو كانت لي القدرة علي الرؤية البعيدة لكنت رأيت الكولونيل ييجال آلون .
الذي كان يقود قوات العدو في معارك النقب وهو يخطب في جنده لكي يشجعهم ثم يخرج بهم الي معركة تقاطع الطرق.وهناك ـ لسوء الحظ ـ يلتقي قائد العدو مع النصر!
قد تلقيت خبر سقوط موقع تقاطع الطرق عند عراق سويدان بدهشة..لقد كنت ادرك ان الموقع بالغ الاهمية بالنسبة لنا. لان سقوطه معناه عزل قواتنا علي القطاع الممتد من عراق سويدان الي الخليل عن مجموعة الجيش الرئيسية العاملة علي الخط الساحلي بين غزة واسدود.وكنت اعرف ان قواتنا في هذا الموقع هائلة !لست اذيع سرا اذا قلت الآن ان اثني عشر مدفعا من مدافع الفيكرز كانت تحمي هذا الموقع!
لكني صدقت الكارثة بعد ان علمت التفاصيل!لقد كان يجب ان تحل بنا هذه الكارثة. لم يكن معقولا ان يكون نصيبنا غيرها ازاء الحال الذي كانت عليه الامور هناك!
كان هذا الموقع في حماية الكتيبة التاسعة.ولكن قائد الكتيبة كان في اجازة!وقتل قائدها الثاني في ضرب مباشرة لقنبلة هاون!ركب قائدها الثالث سيارة وانطلق بها ولم يتوقف الا في الاسماعيلية!
اما القائد الرابع فقد ترك الكتيبة وذهب الي ا لقيادة العامة في المجدل!ومن سوء الحظ ان عبد الحكيم عامر الذي كان اركان حرب هذه الكتيبة كان قد نقل منها ليعمل اركان حرب للكتيبة الثانية!واقول ـ وانا واثق ان الصداقة وحدها ليست هي المنبع الذي يصدر عنه قولي ـ انه لو كان عبد الحكيم عامر ما يزال اركان حرب لهذه الكتيبة لتغير مجري المعركة ولما استطاع العدو ببساطة ان ينجح في هجومه الليلي علي الموقع ويدخله مفاجأة غدرا.
.الحصار
كان الطريق بيننا وبين المجدل قد قطع بسقوط تقاطع الطرق..وضرب العدو ضربته الثانية حين تقدم من خربة الامير الي الطريق الرئيسي فاحتل حنوبه ايضا. كما احتل شماله. قطعنا عن بيت جبرين!
اذن فقد اصبحنا محاصرين تماما..من الشرق.. من الغرب!ہہہويكمل جمال عبد الناصر في مذكراته تفاصيل الحصار فيقول:بدأت ادرك اننا علي ابواب اوقات عصيبة ..كان الموقف اكثر من خطير..وكان العدو نشيطا الي حد يفوق طاقة الاحتمال.
وبدأت الغارات الجوية علي مواقعنا تزداد كثرة وشدة..واختفي طيراننا تماما ولم نعد نراه!وراحت مدفعية العدو تصب الحمم فوق رؤوسنا. لا تهدأ لحظة ولا تتركنا نهدأ.وكان اكثر ما يضايقني فيما حدث. انه كان بين قواتنا عدد كبير من الجرحي.وكان الذي اتمناه ان نجد طريقا نستطيع منه اخراج الجرحي الي حيث نضمن لهم العلاج.
فبقاؤهم بيننا يضغط علي مشاعرنا ضغطا عنيفا قاسيا!وكان هناك بعض المرضي الي جانب الجرحي.لقد دخلت في الصباح علي صديق فاذا هو يتلوي من الالم واذا الفحص يثبت انه يعاني ازمة عنيفة في المصران الاعور وان من الضروري ان تجري له جراحة عاجلة والا انفجر المصران!
ولكن كيف يمكن ان تجري له العملية الجراحية؟وخرجت ثائرا اطلب الي حمالاتنا ان تخرج لاستكشاف طريق آخر للوصول الي بيت جبرين.كانت فرحتي لا تقدر حينما عادت دورية الحمالات بعد ان اكتشفت طريقا جانبيا ما زال مفتوحا الي بيت جبرين.وتنهدت بارتياح وانا اعهد بالجرحي والمرضي الي احد من ضباطنا لكي نخرج بهم في قافلة تجتاز الطريق الخلفي الي بيت جبرين.
الفصـل الاخير
عبد الناصر.. في لقاء مع ضابط اسرائيلي!
حاصرت القوات اليهودية الكتيبة المصرية التي كان جمال عبد الناصر يعمل اركان حرب لها في حرب فلسطين.وتم قطع الطريق بين هذه القوات وبين القوات الرئيسية.
لكن جمال عبد الناصر تمكن من انقاذ المصابين والجرحي المرضي من رجاله بعد ان بعث بدورية عسكرت علي طريق جانبي الي بيت جبرين ليتم علاجهم هناك.مضي جمال عبد الناصر في مذكراته يروي بقية الاحداث قائلا:
-وهممت في ذلك اليوم ان ارفع جهاز اللاسلكي واضربه في الهواء لامزقه واستريح من الهراء الهذر الذي كان ينصب علينا بواسطته .فقد جاءتنا الاخبار ان مجلس الامن عاد فأمر بوقف القتال!
الآن.. تحرك مجلس الامن!اين كان.. واين الخطباء فيه؟!لقد تحرك العدو يوم 5 تشرين الاول (اكتوبر) ولكن مجلس الامن اغلق عينيه وسد اذنيه وحبس لسانه! ومضت ايام 17 و 18 و 19 و 20 وفيها استطاع العدو ان يقطع خطوطنا واذا مجلس الامن يفتح عينيه واذنيه ويصدر امرا بوقف القتال!هي خطة مرسومة..وهي مؤامرة علينا..و لعب بأقدارنا و مصائرنا واعمارنا..و عبث وهزل..والنار المصبوبة فوقنا والطرق المحاصرة حولنا لا تسمح لنا ان نشترك فيه!خطة الانسحاب *************في صباح يوم الخميس 21 تشرين الاول (اكتوبر) دعينا الي مؤتمر في الفالوجة.
وكان المؤتمر لقواد الكتائب في المنطقة المحاصرة واركانات حربها.وكانت هذه الكتائب ثلاثا..الكتيبة الاولي والكتيبة الثانية وكتيبتنا الكتيبة السادسة.ورأس المؤتمر الاميرالاي السيد طه وقال انه تلقي من رئاسة القوات امرا انذاريا بالاستعداد للانسحاب علي ان يرتب امره لبدء الانسحاب.. في الساعة السادسة والنصف بعد ان يتلقي امرا تأكيديا للبدء فيه!
كان من رأيي ان هذا خير ما نصنعه.لقد كنا ثلاث كتائب هي ثلث الجيش المصري. فهل يعقل ان يبقي ثلث الجيش المصري مستسلما للحصار في مواقع سدت عليه من الشرق ومن الغرب؟!هذا من ناحية.ومن ناحية اخري فقد كنت اري ان بقاءنا في هذا الخطر لم يعد له غرض. لقد كنا هنا لنفصل النقب الجنوبي عن الشمالي. وقد اتصل النقب الجنوبي مع الشمالي.. فلماذا بقاؤنا؟ومن ناحية ثالثة فقد كنت اشعر ان انسحاب ثلاث كتائب الي الخليل سوف يرغم العدو علي توزيع قواته. بينها وبين مجموعة الجيش الرئيسي علي الساحل.وبدا ان كل من في المؤتمر مقتنع بهذا الرأي.. الا رئيسه الاميرالاي السيد طه!مع ذلك فلم يسعه الا ان ينزل علي رأي الاجماع.والتفت لي ليكلفني بوضع الخطة المفصلة للانسحاب بواسطة الطريق الجانبي الذي لم ينتبه اليه العدو الذي بعثنا الجرحي منه الي بيت جبرين.وانتحيت ركنا من قاعة الاجتماع ارتب الخطة.. لكن لم يقدر لي ان اتم وضعها. فما لبث السيد طه ان تلقي امرا ثانيا من رئاسة القوات. كان هذا الامر يقول:يلغي الامر السابق بالانسحاب.. حافظوا علي مواقعكم.. امر ايقاف القتال صادر لمصلحتنا !ہہہويكمل جمال عبد الناصر بقية الاحداث المثيرة في مذكراته:
- وكان ايقاف ضرب النار طبقا لقرار مجلس الامن. يبدأ في الثانية من بعد ظهر الجمعة 22 تشرين الاول (اكتوبر) .واوقفنا الضرب في الموعد المحدد..لكن العدو لم يوقف ضربه. ولا اوقف قواته عن احتلال المواقع التي تستكمل منها حصارنا.وكنت اتمني في قلبي ان يركز العدو جهده علي طريق الاسفلت الرئيسي. ينسي الطريق الجانبي الي بيت جبرين حتي يظل منفذا مفتوحا امامنا.لكن الاماني شيء.. والواقع شيء آخر!فلقد طلع صباح السبت 23 تشرين الاول (اكتوبر).
واذا العدو قد احتل الطريق الجانبي وحصن مواقعه عليه. ومعني ذلك ان حصارنا قد كملت حلقاته. ولم يعد خلاله منفذ!وفي الساعة الواحدة عند الظهر..تلقي السيد طه امرا جديدا من رئاسة القوات بالانسحاب الي الخليل.ولكن واسفاه!
كانت الفرصة قد افلتت!ان طول التردد جعل الذي كان ممكنا بالامس مستحيلا تمام الاستحالة في اليوم!لقد قطع الطريق الخلفي الذي كنا نعتمد عليه.لقد كان ممكنا ان ننسحب في سلام منذ ساعات.لكن الوضع الآن يحتم علينا ان نخترق حصار العدو ونقتحم خطوطه ونحن نحمل سلاحنا ومدافعنا ونتحرك علي الطريق!
واضطررت عند الظهر ان اصدر امرا بتخفيض المؤن اليومية للضباط والجنود الي ربع ما كانت عليه.يجب ان نرتب انفسنا للمجهول الغامض الذي يحيط بنا.
حرب معنوية
ويكشف جمال عبد الناصر في المذكرات عن ان فكرة الحرب المعنوية استخدمها اليهود ببراعة في حرب فلسطين فيقول:وقضينا ليلة عجيبة تحت معركة مثيرة من حرب الاعصاب!طارت طائرات العدو علي مواقعنا تلقي المنشورات..وامسكت احدها اقرؤه.. كان المنشور موجها الينا.
كان عنوانه يقول:ايها الضباط والصف والعساكر باللواءين الثاني والرابع..ومضيت اقرأ المنشور حتي آخره ودمي يغلي..كانت كلمات المنشور اليهودي تقول:هل تعلمون انكم محاطون؟اللواء الثاني محاط وكذلك اللواء الرابع لا توجد اي وسيلة للاتصال بينهما. ولا مفر من الاحاطة . ان الاحاطة معناها الفناء الموت.
انكم لتشعرون بذلك في المستقبل القريب. لا يستطيع قوادكم ان يبروا بوعودهم الكاذبة قائلين بان النجدات من الرجال والمهمات، ستصلكم قريبا.كلا..لقد احتلت القوات الاسرائيلية بئر السبع. بعد ما دكت قواتكم دكا. سحقتها سحقا تاما. واذا اتكلتم علي القوات التي سيبعثها الملك عبد الله فاعلموا انه لا ينوي الا طرد قواتكم من قواعدها في بيت لحم والخليل!
انكم ترون الآن في هذه البلاد نتائج الدعاية الكاذبة التي كنتم تصدقونها قبل ما ارسلتم من مصر. وصف قوادكم وساستكم حرب فلسطين بانها سهلة. ووعدوكم بالغنائم والتمتع.اين الغنائم؟واين التمتع؟انكم لم تجدوا هنا الا المصائب. ولم تلاقوا الا الخسائر الفادحة.ولن تلاقوا غير هذا في المستقبل!
ولقد شاهدت أعينكم ان اليهود يعرفون الدفاع عن وطنهم واراضيهم. يحسنون الحرب. هم لم يحتلوا بلادا غريبة لم يفكروا ـ ولن يفكروا ـ في احتلال اي بلاد ليست لهم.واذا تطلعتم الي الخريطة سوف يتبين لكم ان الجيوش الاسرائيلية تحيطكم احاطة السوار بالمعصم!
عليكم ان تختاروا
اذا اردتم البقاء في الحياة.. استسلموا
وستعودون سالمين الي بلادكم. اعلموا انه كذب من قال اننا نقتل الاسري. فهذه اقبح دعاية اخترعها قادتكم الذين ينتظرون الاوسمة والنياشين ولا يكترثون بموت المئات والالوف من جنودهم!هل لهم النياشين.. ولكم الموت؟
لقد امر اللواء احمد بك محمد علي المواوي الجنود المحاطين في بيت عناد في عراق سويدان بالقتال حتي الموت. ولكن اين سعادة صاحب العزة الآن؟
انه ولي مثل الجبان بعد ما اسرنا ما أسرنا من ضباط رئاسته!واين هو قائد بئر سبع؟لقد ترك جنوده منهزمين وهرب.وفي التقاطع ثبت الجيش وكان القائد اول الهاربين!كذلك في الحليقات وغيرها من المواقع التي احتلتها قواتنا.افتكروا قبل الموت. اصغوا الي اخوانكم الاسري يدعونكم للاستسلام.انجوا بانفسكم واستسلموا.وكل من يحضر وبيده هذا المنشور ستؤمن حياته ويعود سالما الي بيته!
ايها الضباط.. اعلموا اننا سنحترم حقوق مندوبكم الذي يتقدم حاملا الراية البيضاء لتجري معه المفاوضات!ثقوا باحترام حقوقكم العسكرية في ديارنا.اعلمتم.. انذرتم!ہہہ
يقول جمال عبد الناصر في مذكراته:
في الصباح بدأت دفعة جديدة من حرب الاعصاب..جاءني جاويش يقول:- سيارة مدرعة من سيارات العدو واقفة علي الطريق خارج مواقعنا رافعة راية بيضاء وعليها ميكرفون يصرخ بأعلي صوته: ضابط اسرائيلي يطلب مقابلة ضابط مصري !
وركبت سيارة جيب..وطرت الي هذا الموقع. واذا السيارة واقفة حيث سمعت. والراية البيضاء ترفرف فوقها. الميكرفون ما زال يصيح ضابط اسرائيلي يطلب مقابلة ضابط مصري !
وقررت ان اذهب بنفسي..وطلبت من جنودنا ان يرفعوا البوابة التي تسد الطريق امام مواقعنا. ثم قفزت الي سيارة الجيب كما انا.كنت مرتديا بنطلونا عسكريا بول اوفر من الصنف الكاكي اللون.وقفز معي الي الجيب اثنان من زملائي الضباط. وجاء معنا جاويش يمسك مدفعا من مدافع التومي.وانطلقت بالجيب باقصي سرعة علي الطريق في المنطقة الحرام بيننا وبين العدو في اتجاه المدرعة التي ترفع العلم الابيض وتطلب بأعلي صوتها ضابطا مصريا ولكي يقابل ضابطا اسرائيليا!
كان الجو مثيرا غريبا..وكانت مشاعري وانا منطلق بسيارة الجيب علي الطريق متباينة.ها هي احدي مدرعات العدو امامنا. تطلب واحدا منا.ها انا منطلق اليها لأقابل احد الضباط الذين كنت اجاهد لقتلهم. وكان هو ايضا من ناحيته يجاهد لقتلي!وكان موقفنا كما اعلم..حصاراً كاملاً. ناراً لا تهدأ. ودبابات وطائرات. منشورات ايضا!
وكان الصمت علي الطريق كاملا الا من دوي محرك سيارة الجيب..واوقفت السيارة حذاء مدرعة العدو ملاصقة.واطل ركابها من ضباط العدو علينا وفي عيونهم دهشة. ثم استجمع واحد منهم كبرياءه. وشد رأسه في عنجهية مكشوفة.وقال باللغة الانكليزية:
- انا المساعد الشخصي للقائد العام لهذا القطاع. انا مكلف بان اشرح لكم موقفكم. انكم محاصرون من كل ناحية. نحن نطلب منكم التسليم!
- نزلت علي اعصابي سكينة غريبة..وقلت له في هدوء:ہ اما الموقف فنحن نعرفه جيدا.. ولكن الاستسلام لن يحدث!ثم اضفت دون ان تختلج في صوتي نبرة:ہ نحن هنا ندافع عن شرف جيشنا.بدأ الضابط الاسرائيلي يتكلم بالعبرية وأحد مرافقيه يترجم.ثم عاد ليتكلم باللغة الانكليزية!
ثم تنازل عن كبريائه وبدأ يتكلم باللغة العربية وهو يشرح لنا الموقف حولنا.ہ قلت له: انك تحاول عبثا.. ونحن نرفض الاستسلام!حملق في وجهي.. وقال في استنكار:- الا ترجع الي قائدك تسأله؟ہ قلت له: هذا موضوع ليس فيه مجال لسؤال!
مرة اخري حملق في وجهي..وساد الصمت بعض الوقت. وكانوا ينظرون الينا ونحن ننظر اليهم.وفجأة احسست ان قناع الكبرياء المصنوع علي وجهه يزول.قال في صمت خافت مؤدب:
- لنا طلب انساني عندكم؟ہ قلت: ما هو؟- قال: نريد ان نسحب قتلانا عندكم من المعركة السابقة.. انت تعرف ان اهل القتلي يحبون الاحتفال بدفن ابنائهم.. فهل تمانعون؟- نظرت اليه.. وصوته الخافت المؤدب يثير في اعماقي شعورا غريبا بالراحة والرضاء..وقلت له: ونحن نوافق لك علي هذا الطلب الانساني!حين عدنا الي مواقعنا مرة اخري عبر الطريق..كانت سيارة الجيب الصغيرة التي كنا فيها تضج بالضحك المرح.كنا نقارن بين بداية المقابلة ونهايتها.بين العنجهية والكبرياء عند طلب الاستسلام.الادب والحياء.. عند طلب جثث قتلاهم!

ليست هناك تعليقات: