آخر المقالات

الأربعاء، 29 أغسطس 2007

فصول من كتاب حرب فلسطين: مذكرات جمال عبد الناصر ويوميات محمد حسنين هيكل- 9



فصول من كتاب حرب فلسطين: مذكرات جمال عبد الناصر ويوميات محمد حسنين هيكل- 9لو أراد روائي عالمي ان يسجل مشاعر المقاتل في ساحة المعركة لما رسم لها لوحة أفضل مما فعل جمال عبد الناصروصف دقيق ومؤثر لذهابه الي الفالوجة ومعركة عراق المنشية.


منقول من القدس العربي
28.08.2007


محمود صلاح
سوف تظل حرب فلسطين أحد أهم الفصول في كتاب تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي ـ مهما مضت سنوات الزمان.هذه الحرب التي كانت لها مقدماتها وأحداثها وتداعياتها. أما المقدمات فقد كانت انعكاسا لحال مصر السياسية أيامها. وحال الأمة العربية أيضا. وأما تداعياتها فأغلب الظن أنها باقية حتي اليوم.
وتبقي أحداث حرب فلسطين 1948 برغم السنوات التي انقضت عليها. مثل كرة بللورية مليئة بالانعكاسات والأشكال المختلفة. تختلف رؤيتها باختلاف الراوي والسامع.ومهما كتب عن حرب فلسطين ومهما اجتهد المؤرخون وأصحاب الآراء والتحليلات. تظل شهادات الأبطال هي الأقوي والأوضح تأثيرا.وهذه شهادة اثنين من أبطال هذه الحرب..الأول.. ضابط مقاتل عاشها وواجه الموت بالرصاص فيها. ووسط ظلام خنادقها ورائحة البارود والموت عرفه العدو الحقيقي. واكتشف طريق النور لنفسه ولشعبه.
الثاني.. كاتب صحافي نادر. حمل قلمه الي ارض المعركة. وارتدي الملابس العسكرية لأول مرة في حياته. وسجل بأمانة لبني قومه تفاصيل هذه الحرب وما سبقها وما حدث فيها.وعلي السطور القادمة تفاصيل شهادة الاثنين.
ماذا حدث في عراق المنشية؟
يروي جمال عبد الناصر القصة في مذكراته قائلا:بدأت استكشف المنطقة حولي لكي أعرف أين أنا. وبالتالي لكي أستعد إذا ما جاء العدو. كانت عراق المنشية قرية صغيرة. تضيق بمن فيها من سكان ومن لاجئين.
كان تعداد الجميع يتراوح بين 1800 شخص و 2000 شخص.وكانت عراق المنشية علي الطريق الرئيسي الذي يفصل الشمال عن النقب الجنوبي. ويمتد من المجدل حتي الخليل. وكانت مستعمرات العدو تحيط بها من كل جانب! علي بعد كيلو مترين اثنين من الأمام منها.
كانت تقع مستعمرة جات .وفي جنوبها مستعمرات رحامة و جمامة وفي شمالها مجمعات أخري من المستعمرات. في أرض يحتلها العدو ويسيطر عليها كلها! كانت حولنا مجموعة من القري العربية. تقع داخل النطاق الذي فرضت علينا حمايته. كان هذا النطاق يمتد الي ثلاثين كيلو مترا.
وعندما وزعت كتيبتنا علي النطاق الذي تحميه. وجدت أن المأساة القديمة قد عادت. فكررت نفسها من جديد.لقد فرض علي قوات كتيبتنا أن تتبعثر علي مناطق منعزلة!وعليها أن تدافع عن الطريق. في هذه البعثرة. وتدافع عن القري الواقعة في نطاقها.. وتدافع بالطبع عن نفسها! وبدأ النشاط يدب في قطاعنا. وذات صباح تلقيت إشارة من الحاكم الإداري المصري لبيت جبرين يقول فيها:
- ان العدو احتل خربة المحجز . وان قواته بدأت تحفر خنادقه. وتحصن موقعها الجديد! قال لي الحاكم الإداري أنه مع عدد من المتطوعين، يناوشون العدو ويعرقلون جهوده، لكنهم في حاجة شديدة الي النجدة! وبعثت التفاصيل الي رئاسة اللواء..وأرسلت في الوقت نفسه أحد ضباطنا. لكي يري الأمر بنفسه. ويعود لنا بصورة واضحة عن الحالة هناك. عند الظهر كانت رئاسة اللواء الرابع تأمر كتيبتنا بطرد العدو من خرب المحجز . وكان الضابط الذي أرسلته للحصول علي معلومات قد حقق مهمته وعاد.خرجت من عراق المنشية في طريقي الي المهمة التي كلفت بها.كانت معي فصيلتان من المشاة. أي ما يقرب من سبعين جنديا. وكانت معي سيارتان مدرعتان، وست حمالات، وواحدة من جماعات الفيكرز.
ومرة أخري وجدتني في سباق مع الزمن..ولكننا استطعنا علي أي حال أن نبدأ الهجوم علي المحجز في الساعة الرابعة بعد الظهر.وكانت الخطة التي وضعتها. أن تتقدم الحمالات من يمين المحجز وأن يتقدم المشاة من الشمال.وبدأت أضع يدي علي قلبي..لأن الحمالات بعثت لي رسالة. تقول فيها أن خورا واسعا ـ مجري مائيا جافا ـ يعترض طريقها. لا تستطيع عبوره الي الهدف؟! لكن فصيلة الحمالات حققت أملي فيها أكثر..فقد تلقيت منها بعد ذلك إشارة في الخامسة والنصف. بأنها وجدت طريقا وأنها ماضية الي الهدف! بعد ربع ساعة أبلغني قائد فصيلة الحمالات.. أنه وسط الهدف!
أبلغني أنه دخل المحجز . وأنه مشتبك مع العدو. تقدمت المشاة في نفس الوقت. معها جماعات من المتطوعين العرب. فلم تحن الساعة السادسة والربع حتي كانت العملية قد انتهت. وكان قتلي العدو يملأون أرض المعركة.. الغريب.. الذي مازلت أعجب له حتي الآن.. أن الحظ حالفنا.. فلم تكن بين قواتنا خسائر علي الإطلاق!
المرة الوحيدة في الحياة
التي شعر فيها عبد الناصر بالخوف
في مذكراته عن حرب فلسطين. روي جمال عبد الناصر كيف قاد قواته للمساعدة في احتلال مستعمرة خربة المحجز . التي شارك في الهجوم عليها بعض المتطوعين العرب. وكيف أبدي الجنود المصريين شجاعة وانطلقوا وسط النار يقتحمون المستعمرة ويحكمون السيطرة عليها.
يكمل جمال عبد الناصر القصة قائلا:وأبلغنا التفاصيل الي رئاسة اللواء الرابع. فصدرت إلينا الأوامر بأن نسلم المحجز الي قوات المتطوعين العرب. ونعود الي مواقعنا في عراق المنشية. وكانت قواتنا العائدة في الليل تبدو كأن لها أجنحة تطير بها من شدة الفرح. كانت روحنا المعنوية عالية..وكانت حماسة جنودنا بالغة. كان الطريق جميلا. لعلني لم أره أبدا رغم الظلام بمثل هذه الدرجة من الجمال!ولكن سعادتي لم يقدر لها أن تستمر أكثر من ليلتين!فقد كانت أول إشارة تلقيتها في صباح اليوم التالي.
أن العدو عاد فهجم علي المحجز . وأن المتطوعين الذين كان عليهم حمايتها، انسحبوا في الفجر تحت نيران العدو!وجدت بعد هذه الإشارة أمرا انذاريا من رئاسة اللواء. بأن نستعد للاستيلاء علي المحجز مر أخري!وبدأت أضرب كفا بكف.لقد خضنا معركة منتصرة لاستردادها من العدو. ومع ذلك فرطنا فيها بسهولة. عادوا الآن يقولون لنا اذهبوا فخذوها مرة جديدة!
معركة في القرية
ويكمل جمال عبد الناصر في مذكراته: في تلك الأثناء كانت هناك إشارات طائرة.. ذاهبة قادمة. وتلقي المسؤولية مرة علي رئاسة اللواء الرابع وأوامرها ومرة علي المتطوعين العرب !وفي الساعة الواحدة ظهرا ألغي الأمر الانذاري!
وعلي أي حال فانني لم أكن توقفت عن مد المتطوعين العرب بالسلاح والذخيرة. ولا عن تحريضهم لكي يذهبوا ويحاولوا بأي طريق، أن يمنعوا العدو من تحصين مواقعه.وكنت أقول لنفسي:لن يذهب هذا عبثا علي أي حال. إذا لم أذهب أنا الي المحجز فسوف يذهب غيري من زملائنا. ولسوف تتردد قيادتنا بعض الوقت. ثم تحزم أمرها أخيرا.
وتصدر الي واحد ما أمرا باسترداد المحجز . وإذا كان في سعيي أن أساعد هذا الواحد في عمله، فانه لا ينبغي علينا أن نتردد .لم ألبث أن علمت بعد ذلك بقليل أن الكتيبة الأولي في الفالوجا قد كلفت باسترداد المحجز . الأوامر صدرت الي زكريا محي الدين بأن يقود الهجوم اتصلت بزكريا محي الدين أطلب منه أن أخرج معه الي العملية!كانت فكرتي أنني أعرف طبيعة الأرض. وأني عملت فيها الي ساعات قليلة مضت. وعندما وصلنا الي منتصف الطريق الي المحجز . وجدنا أن خير ما فعله هو أن نؤجل الهجوم الي الصباح. ونبدأه مع الخيوط الأولي للفجر.ونمنا في الخلاء..زكريا محي الدين.. وأنا! فوقنا بطانية.. تحتنا بطانية أخري!وبيننا أحاديث لا تنقطع عن العدو. وعن قيادتنا. وعن القاهرة أيضا!وبدأت المعركة في الصباح..واقترحت علي زكريا أن يستعين بفصيلة الحمالات من الكتيبة السادسة. وهي التي قادها الجاويش عبد الفتاح. ودخل بها الي وسط العدو منذ يومين. ووافق زكريا. واتصلت بكتيبتنا أطلب منهم أن يبعثوا عبد الفتاح.وبعد ساعة واحدة..
كان الجاويش عبد الفتاح داخل المحجز يبعث لي بإشارة يقول فيها أنه دخل القرية. ويطلب المشاة للتعزيز.لم أطق صبرا..ركبت إحدي الحمالات أسرعت بنفسي الي المحجز .كانت القرية حين دخلتها جحيما من النار. فان العدو الحانق المنسحب كان قد صب عليها كل ما استطاعت مدافعه أن تسعه من قنابل.
اعترف أني شعرت بالخوف مرة واحدة في حياتي.. كانت في تلك الساعة في المحجز !ولست أدري ماذا حدث لي. حتي شردت عن المعركة الي أسرتي في القاهرة!إذا أنا لمدة ثلاث دقائق أفقد روح المحارب واندفاعه.ومن حسن حظي أن هذا الشعور فارقني بعد ثلاث دقائق، وعدت الي شعور اللامبالاة الذي هو عدة المحارب!
ان الحرص علي الحياة ـ وهذه هي تجربتي في ميدان القتال ـ أكثر ما يسلب المحارب روح القتال والاندفاع الي النصر كمن في اللامــــبالاة بالنفس، ونسيان كل شئ عنها، ومراعاة المعركة وحدها! ولو شاء أديب أو روائي عالمي أن يسجل مشاعر المقاتل وأحاسيس الضباط الجند في ساح الوغي. هذه الأحاسيس العميقة التي تتفجر بالإنساني والنبل، ما استطاع أن يرسم مثل هذه الصورة الصادقة التي رسمها جمال عبد الناصر في مذكراته.. والتي أكمل فيها القصة قائلا:ولم يكن هناك ما أفعله بعدها وأنا مشترك في المعركة بطريقة غير رسمية إلا أن أعود ولقيت زكريا في طريق عودتي. وتمنيت له حظا سعيدا. كان هو في طريقه الي المحجز .لم أكد أمضي بعيدا علي أي حال. حتي جاءني من يبلغني أن العدو كر مرة فدخل المحجز !
وقررت أن أتمهل في العودة..في ظني أن أطمئن علي زكريا محي الدين. فقد تركته لآخر مرة متقدما الي المحجز .. وها هو العدو يعود إليها.علمت بعد قليل أن زكريا سمع بسقوط المحجز مرة أخري في يد العدو قبل أن يصل إليها. فعاد في انتظار أوامر جديدة.
لكن الأوامر الجديدة تأخرت ثلاثة أيام كانت أغلي من الحياة في يد العدو الذي جعل من القرية حصنا منيعا!وحين صدرت الأوامر بهجوم جديد عليها كان قائد اللواء نفسه هو الذي سيقود الهجوم. وحشد مجموعات هائلة من القوات.وقلت مرة لقائد مدرعاته:هل تريدون أن أجيء معكم لقد ذهبت كتيبتنا الي المحجز قبل ذلك. واستولت عليها مرتين؟ولم يجب الرجل؟بل اكتفي بأن رمقني بنظرة مشحونة بالكبرياء ومضي في طريقه.. ولكن ليس الي المحجز . فان الهجوم الجديد لم يقدر له، النجاح بسبب الأيام الثلاثة الضائعة علي الأقل!وكنت أتابع التطورات من مواقعنا ففي عراق المنشية أنا أقرض أسناني من الغيظ!وجاء العيد الكبير..وصباح يوم العيد تلقينا رسالة من رئاسة القوات تقول ان العدو سوف ينتهز فرصة العيد ويقوم بهجوم علي مواقعنا.تحذير من مباغتة.
ويظهر أن قيادتنا العامة لم تفعل أكثر من أنها بعثت إلينا بهذه الرسالة. ونسيت عنا كل شئ. وانهمكت في استقبال الأميرة السابقة فايزة. وكان مقررا أن تزور الميدان!لقد عرفنا أن العدو سوف ينتهز فرصة العيد ويهاجم ..ولكن ماذا أعددنا له؟ما هي الخطة التي رسمتها قيادتنا لملاقاته؟كانت النتيجة النهائية لرسالة القيادة أننا أرسلنا الي المواقع نقول لكل جندي: خلي بالك يا عسكري!
لكن ما معني هذا.. ما قيمته؟وماذا كان في استطاعتنا أن نفعل غير ذلك؟ان قيادتنا بعثت برسالتها التي تقول أن العدو سيهجم علي كل اللواءات. أبلغ اللواءات الأمر الي قواد الكتائب. وانتقل الخبر منهم الي أركانات حرب كتائبهم ثم الي قواد السرايا الفصائل. ووصل الجنود في الخنادق بالدرجة الأولي علي صورة:خلي بالك يا عسكري!اعتبرت قيادتنا أنها أدت واجبها.. وأكثر!
ونسيت أنه كان يتعين عليها. أن تعد خططا مضادة لكل احتمال. وتبعث بها إلينا!بدأت الاحداث تجري مسرعة..كان اليوم هو ثالث أيام العيد..وبدأ العدو نشاطه في الساعة الحادية عشرة مساء.وبعثت احدي سرايانا الي الشرق تقول أن العدو يتحرك بين عراق المنشية وبين جبرين. وبعث قائد السرية يقول لي أنه أرسل احدي دورياته للاستكشاف. فعادت إليه تقول أن العدو نشط علي الطريق الرئيسي وأنه احتل موقعا عليه. وبدأ يحفر حوله ويقيم الأسلاك. وأن ذلك معناه قطع الطريق بين عراق المنشية وبين جبرين.
وقلت لقائد السرية أن يشتبك مع العدو.. أن يمنعه من تحصين موقعه. اتصلت برئاسة اللواء الرابع أروي لهم ما حدث. وكان الرد أن تقوم كتيبتنا برد العدو عن هذا الموقع.وفي الساعة الثالثة صباحا..كان تجهيز القوة الخارجة لرد العدو يسير علي قدم وساق. وكان مفروضا أن أخرج أنا بهذه القوة.وكان مفروضا أن نخرج مع أول ضوء للفجر..وكنت واقفا بنفسي أمام مركز رئاسة كتيبتنا أتعجل ضوء الفجر، لكي نتحرك الي هدفنا.كان كل شيء حولنا ساكنا..حتي المستعمرة التي كانت تواجهنا جات بدت وكأنها مستغرقة في نوم عميق ودخلت مركز الرئاسة..طلبت علي التليفون برج المراقبة العالي المشرف من مواقعنا فوق الجبل علي مستعمرة جات ، أسألهم عن الأحوال حول المستعمرة. كان الرد يؤيد ما أحسست به بنفسي. أن كل شيء هادئ.
اقتربت عقارب الساعة من الخامسة..وكان لابد أن نتحرك.لكن فجأة انتهي الهدوء نهاية خاطفة مروعة!بدأت النار تنهال علي عراق المنشية. بتركيز لم أشهد له مثيلا من قبل!إذن.. فقد بدأت المعركة هنا.وإذن.. فيجب أن أبقي لأواجه هذا الهجوم.ودخلت مركز الرئاسة أحاول مواجهة المعركة.دق جرس التليفون في الخامسة والنصف..وسمعت قائد السرية المواجه لمستعمرة جات يقول لي ان العدو يتقدم.. بالدبابات!وصحت فيه أقول:بماذا؟ بالدبابات؟.. هل أنت متأكد؟ومع أن الضابط مضي يؤكدها بشدة فقد تصورت ـ ظلمت في تصوري ـ أن شدة النار، هي التي جعلته يتصور وجود الدبابات من غير أن تكون هناك دبابات!ولم يكن العدو قد استعمل الدبابات في فلسطين أبدا حتي اليوم.. لدرجة أن القائد العام لقواتنا في الميدان. طلب مني ونحن في طريقنا الي عراق المنشية، من مواقعنا القديمة في أسدود، أن أترك له هناك مدافعنا المضادة للدبابات من عيار 6 رطل! ولما حاولت أن أناقشه في هذا الأمر قال:
ان العدو لا يستعمل الدبابات.. ثم ان طبيعة الأرض التي ستذهب إليها، لا تصلح بطبيعتها لاستعمال الدبابات وأطعت القائد! لكني أمرت أحد جاويشة كتيبتنا، أن يأخذ معه من وراء ظهر القائد العام، مدفعين من المدافع المضادة للدبابات.وكنت أقول في نفسي:ولو لمجرد الاحتمال البعيد!وعاد قائد السرية المواجهة للمستعمرة يقول لي:ان الدبابات تتقدم علي مواقعي.. وأنها عبرت الأسلاك الشائكة!إذن فالاحتمال الذي قطع قائدنا العام بعدم حدوثه. وحاولت أنا أن أحتاط له.. قد وقع!إذن أيضا كان يجب أن تبقي معنا مدافعنا المضادة للدبابات، لا تسلب منا، حتي يهجم العدو علينا بدباباته فنحار كيف نصده!وإذن فان اعتمادنا اليوم كله علي مدفعين أخذناهما من رواء ظهر القائد العام!
ونقلت المدافع ..أقصد المدفعين الاثنين.. الي مواجهة الدبابات القادمة!قوات مبعثرة ومدفعان لصد الهجومويكمل جمال عبد الناصر في مذكراته تفاصيل معركة عراق المنشية فيقول:كانت الأخبار تتري عليّ وأنا في مركز الرئاسة، كأنها لمعات البرق المشحونة بالكهرباء !كنت أعرف الموقف أكثر من غيري لأن الصورة كلها أمامي.صورة قواتنا المبعثرة..ومدافع الدبابات التي لا نملك منها إلا اثنين.الألغام التي كنا نصرخ بأعلي صوتنا طلبا لها، ولكنها كانت تصل بكميات لا تكفي إطلاقا لإحاطة مواقعنا بنطاق محكم منها.وأخطرت بأن دبابات العدو تقدمت..دبابات العدو تقتحم الأسلاك.دبابات العدو تقتحم مواقع الفصيلة الأولي.دبابات العدو تعبر مواقعنا كلها الي البلدة نفسها.دبابات العدو داخل البلد.ان الموقف قد تغير إذن ويجب أن أواجهه بطريقة جديدة. لقد كانت قواتنا موزعة علي نطاق معين، لصد العدو المهاجم عليها من الخارج، لكن الكارثة التي حلت هي أن العدو اخترق هذا النطاق.
وأصبح داخل عراق المنشية . أي داخل النطاق الذي ندافع من حوله.إن قلب النطاق ليست فيه مقاومة.المقاومة كانت حوله للصد عنه.إذن فالعدو سوف يمرح في البلدة، ما شاءت له خطته، لكي يمزق أوصالنا ويقطع أعصاب مواصلاتنا! وسألت في لهفة:أين المدفعان المضادان للدبابات؟كانت المفاجأة المروعة التي صنعها لنا القدر!لقد سقطت قنابل هاون فوق المدفعين مباشرة، وعطلا وأصبحا غير قادرين علي العمل!قفزت خارج مركز الرئاسة..يجب أن أواجه الأمر بنفسي علي الطبيعة.لم تعد تجدي الخطط. لقد خرج الأمر عن هذه الحدود، لم يعد ينقذ الموقف إلا محاولة يائسة لسد الثغرة التي فتحها العدو في نطاقات دفاعنا.وحين غادرت مركز رئاستنا، كان العدو قد احتل مدرسة عراق المنشية القريبة من مركز الرئاسة نفسه!كانت البلدة في هول مخيف..القنابل تنفجر من كل ناحية..ضجيج المعركة يملأ الآفاق.طلقات الرصاص تئز مجنونة لا تلوي علي شيء.
أدرت رأسي عن مشهد مؤلم!أحد جنودنا من سلاح الإشارة، مازال يواصل عمله. يمد أسلاك التليفون التي قطعها العدو. ويصيبه الرصاص. يتقدم جندي آخر من جنود الإشارة!وكان الذي في تصوري أن أتجه الي مركز فصيلة الحمالات السرية السودانية المعسكرة إلي الخلف أن أجيء بها الي المعركة، لسد الثغرة المفتوحة أمام العد.
أحسست أن العدو بدأ يغير مواقع ضربه، لأن القنابل بدأت تمر من فوقي متجهة الي حيث أقصد!نجوت باعجوبةكنت بمدفع التومي في يدي أحاول أن أسبق القنابل!القنابل التي كانت تعبر من فوقي لكي تلاقي المواقع التي أتجه إليها.وفجأة.. أحسست بحافز خفي!صوت قنبلة مختلف عن باقي الأصوات. كانت القنابل المندفعة فق رأسي إلي أهدافها تصنع في اندفاعها صوتا خاصا، بين الأزيز والفحيح السريع الخاطف أما هذا الصوت الذي أسمعه فوقي فهو أشبه بخفق أجنحة الطير عندما يصيبه رصاص الصائد فيرف ويسقط الي الأرض!اني أعرف هذا الصوت!
انه صوت سقوط القنبلة عند وصولها الي آخر مرماها!ألقيت بنفسي بسرعة علي الأرض احتمي بجدار منخفض متهدم.بعد ثانية واحدة أو ثانيتين سمعت الانفجار!رفعت رأسي فوجــــدت غـــبار الانفجار، مازال كدوامة الهــــواء علي الناحــية الأخري من الجدار!إذن.. فقد نجوت بضربة حظ عجيبة!لم يكــــن هناك مجال للتأمل أو التفكير فقد اندفعت الي منطقــــة فصيلة الحمالات منطقة الشؤون الإدارية وقلـــت لأول ضابط وجدته هناك:خذ كل الجنود واطلع الي منطقة المدرسة!علمت أن السرية السودانية خرجت الي المعركة قبل وصولي بقليل.بدأ كل قادر علي حمل السلاح يخرج..خرج الطباخون..وحتي سائقوا السيارات..وأقول سائقو السيارات لأني مازلت أذكر أحدهم.كان اسمه عزت.. وكان قلبه كالحديد!ولم يكن يتردد أمام أي مهمة.وكان دائما ينجو بما يشبه المعجزات.لقد لقيته أخيرا منذ شهور في مستشفي الجيش وكان مريضا في المستشفي وعرفته وبدأت أحدثه وأتعرف حالته، وقال لي وعينه فيها دموع أنه مصاب بسل في العظام.وقلت للطبيب الذي يعالجه:أما من وسيلة؟قال: عندنا لا .. لكنهم قد يستطيعون عمل شيء له في أمريكا!
قلت: إذن يسافر أمريكا لكي يعالج هناك.. انه خير عندي من مائة من الباشوات الذين كانت سبل السفر مفتوحة أمامهم. واني آسف لأن أجل عزت لم يسعفه، فـــــانه مات بمرضه قبل أن تتم إجراءات ســـــفره الي أمريكا.علي أي حال..أعود للمعركة الناشبة في عراق المنشية ..للعدو الذي اقتحم نطاق دفاعنا..للدبابات التي لم يقف في طريقها شيء. واقتحمت الأسلاك الشائكة اجتاحت المواقع أصبحت في قلب البلدة. للقنابل الطائرة فوق رؤوسنا..الواقعة في مثل صوت رفيف الحمام الضروب فوق رؤوسنا.لجنودنا الخارجين في اندفاع اليائس الذي يغامر بآخر قطر دم لجنود سلاح الإشارة، الذين يسقطون وهم يحاولون وصل ما انقطع من الأسلاك!للطباخين..للسائقين.. الذين خرجوا بما استطاعت أن تصل إليه أيديهم من سلاح.انطلقوا لملاقاة دبابات العدو التي ظهرت لأول مرة في المعركة
وبدا أنها ســــيطرت علي الموقف.. سيطرة كاملة.

ليست هناك تعليقات: