آخر المقالات

الخميس، 27 سبتمبر 2007

معركة الفلوجة وهزيمة امريكا في العراق -5





احمد منصورہ يكشف خبايا معركة الفلوجة وهزيمة امريكا في العراق -5اخترق فريق الجزيرة الحصار المفروض علي الفلوجة ليصبح محاصرا داخلهاغضب اهالي الفلوجة من مراسل المحطة لقوله انهم خائفون من الهجوم الامريكي
27/09/2007


منقول من القدس العربي
27.09.2007


يكشف الاعلامي المعروف احمد منصور ومقدم البرنامج الشهير (بلا حدود) علي قناة الجزيرة القطرية تفاصيل وخفايا معركة الفلوجة الثانية في تشرين الثاني/نوفمبر 2004 التي تابعها وغطاها من الميدان، ويري ان المعركة كانت بمثابة هزيمة للاستراتيجية الامريكية في العراق. و القدس العربي تنفرد بنشر فصول من الكتاب تكشف عن حجم الجرائم التي ارتكبتها امريكا في العراق وفي المدينة التي حولتها لأنقاض وشردت اهلها ولا تزال بعد كل الجرائم تفرض حصارا عليها مع ان المعركة انتهت منذ اربعة اعوام .القدس العربي.



اتفقنا وبدأنا المسير، سلكنا طريقاً ترابياً مليئاً بالحفر والصعود والهبوط، وكانت بعض السيارات تسلك نفس الطريق ولكن كانت قليلة مما يعني أن هذا الطريق لا يعرفه فعلاً إلا أهل المنطقة.
بعدما سلكنا بعض الطرق الترابية التي تقودنا إلي طريق النعيمية، مشينا بمحاذاة الممر المائي الذي يطلقون عليه اسم المشروع ، وكانت الطائرات المروحية الأمريكية تحلق حولنا بكثافة، بما يشير إلي حالة طواريء واضطراب وقلق في المنطقة، شاركتنا بعض السيارات جانباً من الطريق ثم أصبحنا وحدنا في النهاية، وكنا نمشي بمحاذاة الممر المائي ولكن ليس في جهة الفلوجة ولكن في الجهة الأخري، وسألت حامداً إن كان هناك جسر في النهاية سوف ينقلنا إلي الضفة الأخري للمشروع؟ قال: نعم هناك جسر ولكن عند مدخل النعيمية .
كنا جميعاً ندعو الله أن يفتح لنا مدخلاً إلي المدينة، وكنت قلقاً بعض الشيء من الوضع برمته، ولدي مخاوف من أن نجد الطريق في النهاية مغلقاً، لكني كنت أفكر في نفس الوقت في كيفية العبور من هذا المجري المائي إلي الضفة الأخري، ولكن كيف؟ كان عرض الممر المائي حوالي عشرة أمتار لكنه كان سريع الجريان، ولم أجد أي قوارب علي جانبيه، يمكن أن تساعد في فكرة العبور، وحدثت حامداً بما كنت أفكر فيه، فقال: لا نستطيع عبوره إلا سباحة.
قلت له: ألا توجد قوارب ولو صغيرة؟ قال: لا أدري ولكن أعتقد عدم وجود قوارب هنا ، أخيراً شاهدنا الجسر، فحمدنا الله كثيراً لأنه حتي الآن لم تصادفنا أية قوات أمريكية وإن كانت الطائرت تحوم طوال الوقت في المنطقة، قال حامد: خلف هذا الجسر تقع النعيمية ونستطيع أن نري الفلوجة رأي العين من هناك ، بدأت أشعر ببعض الارتياح، ولكن ما إن عبرنا الجسر الصغير علي الممر المائي حتي وجدنا بعض السيارات تصطف علي جانبي الطريق وبها بعض المسافرين، وسرعان ما شاهدنا قوات أمريكية تغلق الطريق، ليس بحواجز إسمنتية كما كانوا يغلقون الطريق السريع، ولكن بكومة كبيرة من التراب وخلفها جنود في دبابات وعربات مدرعة.أوقفنا سيارتينا إلي جوار الطريق وقلت للزملاء: سنذهب لنكرر المحاولة أنا وليث مرة أخري، اتجهت إلي الجنود الذين كانوا قريبين للغاية، وما إن اقتربت حتي صرخ عليَّ أحدهم أن أتوقف مكاني ولا أتقدم، وقفت ورفعت له هويتي الصحفية وقلت له: أنا صحفي ونحن فريق تليفزيوني من قناة الجزيرة الفضائية ، ونريد التحدث إلي قائد الحاجز؟ جاءني قائدهم وتحرك نحوي فيما كان الآخرون في وضع استعداد تام لإطلاق النار.
قال قائدهم وكان يبدو عليه التوتر الشديد: ماذا تريد؟ قلت له: نحن فريق من قناة الجزيرة الفضائية، وهذه هوياتنا ونريد الدخول إلي الفلوجة؟ . توقعت أن يتعامل معي مثل قائد الحاجز الآخر الذي كان علي الطريق السريع والذي تعامل معنا بأدب واحترام، وطلب منا أن يخبر قائده، لكن هذا القائد كان متوتراً وصارماً إلي حد بعيد، ولم يفتـــح أي مجال للحوار أو النقاش أو التفاهم، وقال بلهجة حازمة: هذه منطقة عسكرية مغلقة وغير مسموح لأحد بالدخول قلت له: ولكننا صحفيون؟ قال بنفس اللهجة التي لا تحتمل النقاش: قلت لك غير مسموح لأحد بالدخول وعليك الابتعاد الآن عن هذه النقطة .
كان من بين الناس القليلين الذين يقفون في المكان أحد الأطباء الذين يعملون في مستشفي الفلوجة، وكان قد أبلغني أنه من الصباح يحاول الدخول إلي المدينة لكن كل الطرق التي ذهب إليها وجدها مغلقة. قلت لقائد الحاجز الأمريكي: هل يمكن أن تسمح لهذا الطبيب أن يدخل؟ قال بحزم: قلت لك ممنوع، وعليك أن ترحل وفريقك الآن من هنا .
قلت له: سؤال أخير، هل يمكن أن تسمح لي بأن أفتح جهاز الستلايت وأن أرسل لمحطتي التليفزيونية رسالة من هذا المكان؟ استشاط الجندي غضباً هذه المرة وقال لي بلهجة حازمة وقد بدا أن صبره قد نفد: إن لم تغادر المكان خلال خمس دقائق أنت وفريقك التليفزيوني سأفتح عليك النيران .
أدركت أنه لا مجال للمزيد من الكلام فاستدرت عائداً وبعد بضع خطوات من المسير جاءني اتصال هاتفي من مقر الجزيرة الرئيسي في الدوحة وكان معي منتج نشرة الأخبار للساعة الثانية عشرة ظهراً، وقال لي: نريد أن نأخذ معك مداخلة للنشرة.
ثم حوَّلني علي الهواء مباشرة حيث كان معي الزميل عبد الصمد ناصر مقدم نشرة الأخبار، وطلب مني عبد الصمد إعطاء المشاهدين صورة عن الوضع حول الفلوجة وفي أي المناطق نحن متواجدون الآن.
أعطـــيته صورة مختصرة ومركَّزة عن وضع المدينة وحصار القوات الأمريكية لها، وعدم وجود أية طرق مفتوحة لإمكانية الدخول.في هذه الأثناء أعاد الضابط الأمريكي صراخه عليّ مرة أخري من خلال ميكرفون كان يحمله علي ظهر المدرعة، بضرورة الابتعاد وإلا أطلق علينا النار، اختصرت مداخلتي وأسرعت الخطي بالابتعاد عن المكان حتي نتواري بعيداً عن الحاجز الأمريكي وطلبت من الزملاء أن يتصلوا بي في وقت لاحق لأننا في وضع خطر.
عدت إلي حيث كان الزملاء وطلبت منهم أن يتحركوا بالسيارات ولكن ليس بعيداً وإنما حتي نتواري عن الجنود بشكل لا يتمكنون فيه من رؤيتنا، وكان في المنطقة أشجار كثيفة توارينا خلفها حتي نتدبر أمرنا ونعرف ما الذي ينبغي علينا فعله، وعلي بعد خمسين متراً فقط وجدنا طريقاً منحدراً يؤدي إلي مخزن لبيع أسطوانات الغاز، فنزلنا بالسيارات في المنحني ووقفنا تحت أشجار كثيفة، وقلت لحامد: هل نحن لا زلنا بعيدين عن الفلوجة؟ قال وهو يشير إلي منازل لا يزيد بُعدها عنا أكثر من كيلو مترين: هذه هي الفلوجة يا أحمد . قلت له: إذا كانت هذه هي الفلوجة أعتقد أننا نستطيع أن نذهب سيراً علي الأقدام لا سيما وأننا في الضفة الأخري من المجري المائي .
قال: لكن كيف نذهب والطريق مكشوف والطائرات المروحية كما تراها تحوم في السماء، ونحن نرتدي سراويل وقمصاناً وأهل المنطقة لا يرتدون إلا الجلباب، ومعنا أجهزة ثقيلة لا نستطيع حملها .
قلت له: فلنحاول تدبر الأمر ولكن ابحث لنا في أمر الذهاب سيراً علي الأقدام لا سيما إن كنت تعرف أحداً من أهل المنطقة يكون دليلاً لنا ، قال: سأحاول تدبر الأمر .كان حامد رجلاً بكل معني الكلمة طوال الرحلة، لم أكن أطلب منه شيئاً أو أسأله عن شيء ويجيبني جواباً سلبياً علي الإطلاق، كان دائماً إيجابياً إلي حد بعيد، وكان أخبرنا بالمكان وأهله وطرقه، وكان شجاعاً ومقداماً، وكلما واجهنا أمراً صعباً كان يكفي أن ألتفت إليه ودون أن أطلب منه في كثير من الأحيان ليقول لي مطمئناً ومجيباً: أنا حاضر يا أبا ندي ـ وندي هي ابنتي الكبري ـ حيث أن ولدي محمد لم يكن ولد بعد ولكنه كان جنيناً في أيامه الأخيرة في بطن أمه ينتظر القدوم للحياة في أي لحظة وقد ولد بعد معركة الفلوجة الأولي بأيام ـ كما أن حامداً ينتمي إلي عشيرة الجميلات إحدي أكبر عشائر الفلوجة، والبعد العشائري في هذه المناطق له اعتبارات كثيرة، وكان في أخلاقه متواضعاً ودوداً يحظي باحترام الناس وتقديرهم، كما أنه كان هادئاً ويقدر المسؤولية ويعرف كيف يتصرف في أحلك الظروف بروية ويوظف الأمور بشكل صحيح، والناس لا تعرفهم إلا في الأسفار والشدائد، وكان حامد من أفضل من صحبت في الأسفار والشدائد كما سأبين فيما بعد.
وقد لعب حامد دوراً أساسياً من خلال كل هذه الخصال في نجاح مهمتنا وتذليل كل الصعاب التي واجهتنا، أما أهله آل حديد فكانوا من أكرم الناس وأجودهم وقد وسعونا بقلوبهم قبل أن يسعونا في بيوتهم خلال الأيام التي قضيناها تحت الحصار في الفلوجة.قال حامد: سأذهب إلي قريب لنا أعرفه هنا ربما يدلنا علي طريق ندخل منه إلي الفلوجة يكون غير مطروق أو لم يغلقه الأمريكان بعد، وسوف أعود بعد قليل . ذهب حامد ووقفت أتأمل منازل الفلوجة التي كنت أراها واضحة عبر منطقة صحراوية جرداء تعرف بصحراء النعيمية، وظللت أفكر بأيّة وسيلة تكفل لنا الدخول إليها، ووضعت عدة سيناريوهات كانت كلها مليئة بالأمل والعزم والتصميم علي دخول المدينة، من بينها أن ندخل أنا وحامد سيراً علي الأقدام ومعنا هواتفنا التي تعمل عبر الأقمار الاصطناعية فقط حتي لو اضطررنا أن ننتظر إلي الليل لنتواري عن أعين القوات الأمريكية وندخلها تحت ستر الليل، ومن هناك ننقل ما نشاهده إلي مشاهدي الجزيرة عبر الهاتف، لكن نحن في النهاية قناة تليفزيونية ولسنا راديو، والتليفزيون صورة ومن ثم فوجود الكاميرات هام للغاية معنا، لذا فكرت أيضاً أن نأخذ المصورين معنا أو أحدهما، لكن ما هي أهمية الصورة إذا تم تصويرها ولم تبث ليشاهدها الناس، إذن لا بد من جهاز البث أيضا.وبينما كنت مستغرقاً في التفكير والبحث عن سيناريوهات مختلفة للدخول إلي المدينة، وأنا أدعو الله أن يجد لنا منفذاً، لمحت سيارة بيضاء صغيرة قادمة من جهة الفلوجة، من خلال هذه المنطقة الصحراوية القاحلة، وكانت السيارة تتهادي وتقترب ببطء شديد شيئاً فشيئاً من المكان الذي كنا فيه.وقفت أرقبها وقلت في نفسي: لننتظر سائقها ونسأله من أين هو قادم ربما يكون قادماً من الفلوجة، ويدلنا علي طريق ندخل منه ، لم تفارق السيارة عيني وأنا أرقبها تتهادي بين الوديان فتظهر تارة وتختفي أخري، حتي اقتربت ووجدتها تتجه عبر طريق ترابي ضيق نحونا، فأسرعت تجاهها وحينما وصلت أشرت إلي سائقها فتوقف وكان رجلاً في عقده الرابع، وكانت السيارة من نوع تويوتا كريسيدا من النوع القديم، قلت له: من أين أنت قادم؟ لاحظ لهجتي المصرية، فتوجَّس قليلاً ثم قال وهو ينظر إليَّ شزراً: وماذا تريد؟ قلت له: لا شيء.. نحن من قناة الجزيرة الفضائية هل تعرف قناة الجزيرة؟ لم يجبني بالإيجاب أو النفي ولكن بنفس الوجه القلق تساءل: قناة الجزيرة؟ وماذا تريد؟ قلت له: نحن نريد أن ندخل إلي الفلوجة حتي ننقل ما يحدث فيها إلي الناس من خلال التليفزيون، ومن الصباح ونحن ندور علي الطرق فوجدناها كلها مغلقة، لذا نبحث عن أي طريق يمكن أن يدخلنا إلي المدينة، ولو ساعدتنا نكون لك من الشاكرين ، بدأ الرجل يطمئن لي قليلاً ثم قال لي: أنا قادم فعلاً من الفلوجة، وهذا الطريق لم يغلقه الأمريكيون لأنهم ربما لا يعرفونه، فهو طريق ترابي يسير بين الوديان القاحلة كما تراه لكنه خطر، وكان المهربون يستخدمونه من قبل، ولولا أني كنت بحاجة إلي بعض الاسمنت لأرمم جانباً من بيتي ما خرجت، وهذه هي المرة الرابعة التي ذهبت وجئت فيها من هذا الطريق اليوم بعدما أغلق الأمريكيون كل الطرق المؤدية للمدينة، لكنني قررت أن تكون هذه هي الأخيرة لأن الطيران يحوم في المكان، وهناك قتال متقطع هنا وهناك، ولدي أطفال صغار ولا أريد أن أجازف أكثر من ذلك . كدت أطير من الفرحة بعدما عرفت منه أن هناك طريقاً يمكننا الدخول منه إلي المدينة، فقلت له: أرجو أن تساعدنا في الدخول من هذا الطريق، لأنك ستكون بذلك تساعد أهلك من أهل الفلوجة بأن ننقل للناس معاناتهم وهم تحت الحصار وكذلك ما يدور في المدينة . نظر الرجل إليَّ وكأنه لا يستوعب ما أقول أو أنه يتعجب له، ففكَّرت أن أعرض عليه مبلغاً مالياً يكون مغرياً لا سيما بعدما رفض طلبي وقال: لا لن أعود مرة أخري فالطريق خطر للغاية .وفي اللحظة التي هممت أن أفاتحه وأن أعرض عليه بعض المال، لمحت حامداً عائداً من مهمة البحث عن طريق آخر، فاتجهت نحوه مسرعاً لأسأله أولاً ماذا عنده فربما أجد عنده مدخلاً يكون أكثر أماناً من هذا الطريق، فأبلغني أن كل من سألهم أخبروه أن كل الطرق مغلقة حتي الطرق الزراعية الفرعية التي ربما لم يكن يعرفها إلا أهل الفلوجة. قلت له وأنا أشير إلي الرجل الذي كان في السيارة: إن هذا الرجل قادم من الفلوجة ويقول إنه استخدم طريقاً للمهربين يمر عبر هذه السهول والأودية، وقد حاولت إقناعه بأن يدخلنا من نفس الطريق لكنه خائف ويقول بأن الطريق خطر، وكنت علي وشك أن أعرض عليه مبلغاً من المال مقابل أن يدخلنا لكني رأيتك قادماً، فقلت لتحاول أنت معه بطريقتك، وأعتقد أنك لو عرضت عليه مبلغاً مغرياً من المال ربما يقبل . قال حامد: دعني أراه وأتحدث معه أولاً .عدت برفقة حامد إلي الرجل الذي لم يكن بعيداً عنا، وما إن رآه حامد حتي بدا أنه يعرفه، سلم عليه سلام من يعرفه، لكن الرجل لم يتعرف علي حامد سريعاً، وبعدما عرّفه حامد بنفسه وذكره ببعض الأشياء من بينها أن حامداً قد حضر حفل زفافه قبل سنوات طويلة، تذكره الرجل ودخلا في حديث ودّي بينهما، فاستبشرت خيراً، وبدأ حوار بين حامد والرجل الذي ينتمي إلي بيت المسالمة وهم يسكنون أطراف النعيمية ويُعتبرون من أحد أفخاذ عشائر الجميلات التي ينتمي إليها حامد، وبدأت مناقشة ولكن من نوع آخر كانت العشيرة والأقارب هي المحور الأساسي فيها، ولأني كنت قلقاً ومتعجلاً فقد ذكَّرت حامداً بصوت خفيض بأن يعرض علي الرجل مبلغاً من المال ربما يشجعه ذلك علي أن يغير رأيه ويصحبنا في الدخول إلي المدينة، قال حامد لي: لا هذا عيب في عرف العشيرة دعني أقنعه بطريقتي .تركته ووقفت أرقب الموقف ويدي علي قلبي، خوفاً من أن يصرّ الرجل علي موقفه ويرفض، والطريق بحاجة إلي دليل ومن ثم نجد صعوبة في الذهاب، كنت أعرف أن الرجل يخاطر بالمجيء معنا وكان هو قلقا أيضاً وأخذ يحكي لنا عن الطائرات المروحية التي تحوم في سماء المنطقة وتقصف أي هدف يتحرك، لكني في النهاية كان لدي أمل في إقناعه.تحوَّل الرجل من الرفض إلي التردد وسرعان ما وافق، وقال وهو يركب سيارتنا: توكلوا علي الله ، لا أستطيع أن أصف مقدار الفرحة التي غمرتني حينما وجدت الرجل يركب معنا في سيارة أبي عمر، قلت له: تعال هنا إلي جوار أبي عمر أنت تعرف الطريق . قال: لا اجلس أنت مكانك وأنا سأجلس خلف السائق وأوجهه ، قبل أن نتحرك أخبرت الزملاء بالوضع وخطورته، وقلت لحامد: لا ينبغي أن نجبر أحداً من الزملاء علي أن يخوض هذه التجربة الخطرة معنا، فالله هو الحافظ، ولكن من الممكن أن تقصفنا هذه الطائرات المروحية بالصواريخ أو يرانا هؤلاء الجنود من وراء التلال فيطلقوا علينا قذائف الدبابات لأن الطريق مكشوف وخطر كما يبدو، لذا يجب أن نضع الزملاء جميعاً في الصورة ونخيرهم بين العودة إلي بغداد أو مواصلة الطريق معنا.أبلغت الزملاء بالوضع وخطورته لكني لم أجد تردداً من أحد، بل كانوا كلهم عازمين علي مواصلة الطريق إلي الفلوجة، قلت لهم: دعونا نرفع أكفنا إلي السماء وأن ندعو الله أن يحفظنا أو يعمي عيون الأمريكيين عنا . دعونا كلنا من صميم قلوبنا وانطلقنا.ركب المهندس سيف مع سيارة البث وكان بها الأجهزة وطبق الستلايت علي سطحها وكان يقودها فرقد، بينما ركبنا جميعاً ومعنا الدليل المسالمي في السيارة التي يقودها أبو عمر. مشينا بداية في طريق ترابي فرعي كان ينحدر الي الوادي ويدور من خلف الأبنية فاختفينا بذلك عن رصد الجنود الذين كانوا يغلقون الطريق الرسمي الي الفلوجة عبر النعيمية، وكنت أخشي أن يرصدونا من بين ثنايا البيوت لكن المسالمي طمأنني بأنه تأكد في تحركاته السابقة أنهم لم يرصدوه، كنت ألهث بالدعاء طوال الوقت وعيني علي السماء أرقب الطائرات المروحية التي كانت تحلق من بعيد، وعيني كذلك علي الطريق الذي بدأ يسوء وتكثر فيه الحفر والارتفاعات والانخفاضات والتجمعات الترابية التي يمكن أن تنغرس فيها عجلات السيارة، وكانت عيني في نفس الوقت ترقب من المرآة الجانبية لسيارتنا سيارة الستلايت التي كانت تتحرك خلفنا ولكن ببطء، فقلت لأبي عمر: لا تبتعد عن سيارة الستلايت كثيراً لأنهم عرضة للانغراس في التراب أو الحفر أكثر منا بسبب ثقل الأجهزة، كما أنهم مجبرون علي أن يسيروا ببطء في هذا الطريق الصعب .سألت المسالمي عن هذا الطريق فقال: ان المهربين كانوا يستخدمونه في تهريب السجائر والسلع التي كانت تفرض عليها ضرائب كبيرة في عهد صدام حسين، لكنه أصبح مهجوراً بعد سقوط صدام، وأهل المنطقة يعرفونه وان كانوا لا يستخدمونه لوجود طرق أخري كثيرة بديلة وممهَّدة .كانت كل دقيقة تمر علينا كأنها دهر، وكنا نتوقع في أي لحظة أن تقصفنا الطائرات أو الدبابات التي تطوق المدينة ولم نكن نراها، وفي مثل هذه الأوقات يشعر الانسان أن قلبه معلَّق بين السماء والأرض، وقد شعرت بقلبي كذلك، رغم أني مررت بمواقف لا تقل صعوبة عن تلك أثناء تغطيتي للحرب في أفغانستان والبوسنة والهرسك.
نظرت في المرآة الجانبية للسيارة فوجدت المسافة بيننا وبين سيارة جهاز البث أصبحت كبيرة، فطلبت من أبي عمر أن يتوقف حتي تقترب منا سيارة البث، فقال الدليل المسالمي: هناك خطر كبير لو توقفنا. قلت: اذن هديء كثيراً من سرعتك هم في خطر أكبر منا ويمكن أن تنغرس بهم السيارة في أي حفرة من تلك الحفر الترابية العميقة ولا يجدون من ينقذهم سوانا.
سارَ أبو عمر بهدوء حتي اقتربت منا ســــيارة البث، في هذه الأثناء كنا نقترب شيئاً فشيئاً من بيوت الفلوجة، وأنا أكاد أحسب كل سنتيمتر نتجاوزه في الطريق ونقترب فيه أكثر من البيوت، وخيل اليَّ في تلك اللحظة أنه لو أطفأ أبو عمر محرك السيارة، لسمعنا دقات قلوبنا جميعاً وهـــي تكاد تخرج من صدورنا، ونحن نعد أنفاسنا ونتلهف للوصول الي أطراف المدينة.لم أكن أصدق بيني وبين نفسي أن تلك البيوت التي نقترب منها هي بيوت الفلوجة، كنت أعتقد أنها بيوت قرية أخري مجاورة لها وبعدها سنقطع طريقاً خطراً آخر الي الفلوجة، لذلك حينما وصلنا الي أطراف البيوت قلت للمسالمي: كم بقي من الوقت حتي نصل الي الفلوجة؟ قال هو وحامد في صوت واحد: هذه هي الفلوجة، هذا حي الشهداء الذي يقع جنوب المدينة .
فجأة وقبل أن أتكلم خرجت علينا مجموعة مسلحة لا تقل عن خمسة أشخاص وهم يحملون الأسلحة الرشاشة فاعترضوا طريقنا وقطعوه وهم يشهرون أسلحتهم في وجوهنا وكأنه كمين مدبر، وطلبوا منا بلهجة حازمة أن نتوقف. أسقط في يدي وقلت في نفسي: لقد أنجانا الله من الأمريكيين ولكننا وقعنا في كمين في يد هؤلاء ولم أكن أدري هل هم قطاع طرق أم من المقاومة؟ وكان قطع الطرق منتشراً الي حد بعيد في العراق آنذاك، أوقف أبو عمر السيارة بشكل مفاجيء، وكنت أجلس في المقعد الأمامي فكانت الأسلحة كلّها موجهة نحوي ونحوه، حينها نظر دليلنا المسالمي اليهم بغضب من الشباك الجانبي حيث كان يجلس خلف السائق وبدا أنه يعرفهم وهم يعرفونه فقد كانوا من أهل المنطقة، حيث صرخ فيهم وطلب منهم أن يبتعدوا ويبدو أنهم تعرفوا عليه، وسرعان ما انخفضت الأسلحة ووجهت فوهاتها الي الأرض، وفتحوا لنا الطريق ولم يتركنا المسالمي حتي وصلنا الي الطريق المعبَّد، وقال: ها أنتم قد وصلتم وهذا الطريق يصل بكم الي قلب المدينة. نزلت من السيارة فعانقت الرجل ولم أكن أعرف كيف أشكره، فقــلت له: وكيف ستعود؟ قال: سأدبر أمري.
لا زلت أذكر وجه هذا الرجل المسالمي البسيط وملامحه وشواربه وملابسه التي تدل علي أنه أحد هؤلاء الكادحين في الحياة، ولولا أن الله سخَّره لنا ما استطعنا الدخول الي الفلوجة، ولما قمنا بهذه التغطية التي كنا مصدر الأخبار المصوَّرة الوحيد لكل وسائل الاعلام في العالم من خلالها، حيث اكتشفنا بعد ذلك أننا الفريق التليفزيوني الوحيد الذي تمكَّن من دخول المديــــنة وقدم هذه التغطيات الي العالم والتي استمرت حتي رفع الحصار عن المدينة بعدما فشل الأمريكيون في اقتحامها وبدأت هزيمتهم في العراق بعد معركة الفلوجة الأولي.



تحت وابل النيران في الفلوجة



قلت لحامد وأنا أكاد أكون غير مصدِّق أننا نجحنا في اختراق الحصار الأمريكي لمدينة الفلوجة وأننا أصبحنا داخلها بالفعل: أهذه هي الفلوجة حقاً يا حامد؟ قال بثقة واطمئنان: نعم هذه هي مدينتي الفلوجة وهذا هو حي الشهداء. ويمكننا أن نتوجه منه الي حي نزال ثم الي وسط المدينة .
قلت وأنا أريد أن أزيد نفسي اطمئناناً: هل هذه بيوتها وهذه شوارعها؟ قال حامد: نعم . قلت: هل معني ذلك أننا لن نواجه أية حواجز أمريكية تعيدنا مرة أخري الي بغداد أو تمنعنا من الدخول؟ قال حامد: لقد تخطينا كل الحواجز ونحن الآن أصبحنا تحت الحصار والنيران تماماً مثل أهل الفلوجة .
رفعت كفي الي السماء وأنا أشكر الله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه أن سهَّل لنا اختراق الحصار الأمريكي ودخول المدينة، سألني حامد قائلاً: الي أين تريدنا أن نذهب؟ الي بيتنا حيث سنقيم لنضع أغراضنا ونهييء مكان اقامتنا ثم نذهب للمدينة؟ أم تحب أن نذهب مباشرة الي المدينة ؟ قلت له: نذهب أولاً الي السوق والي قلب المدينة، حتي نري كيف هي حال الناس، فالناس في أنحاء الدنيا يريدون أن يعرفوا ماذا يحدث داخل الفلوجة وما هي حقيقة الحصار المضروب حولها، وما هي مشاعر أهلها .ذهبنا الي قلب المدينة حيث مطاعمها الشهيرة التي عادة ما يجتمع عندها الناس لا سيما وقت الغداء، وقـــد وصلنا هناك في الساعة الواحدة ظهراً.
وأذكر أن من أشهر تلك المطاعم مطعم البادية و زار زور الفلوجة و الحاج حسين الكبابجي ، وجدنا معظم المحلات مغلقة والشوارع كانت شبه خالية، لكن الناس بمجرد أن شاهدونا وتعرفوا علينا خرجوا وتجمَّعوا حولنا من كل حدب وصوب، وأخذ كل منهم يتحدَّث الينا بما عنده، فطلبت منهم أن يعطوا الفرصة لبعضهم البعض حتي نسمــــع من كل منهم علي حدة، لأننا موجودون هنا من أجل نقل أصواتهم الي الدنيا، وطلبت من ليث وحسين أن يسجِّلا تصريحات لبعضهم.
أثناء ذلك جاءني اتصال عبر الهاتف من الزملاء في الدوحة يسألون أين وصلنا؟ واذا كان هناك بارقة أمل لدخولنا الي الفلوجة أم أننا في طريق عودتنا الي بغداد؟ قلت لهم: اننا الآن في قلب المدينة لقد نجحنا في اختراق الحصار الأمريكي ونحن الآن في قلب مدينة الفلوجة .أخبرني منتج نشرة الأخبار آنذاك أن هناك نشرة أخبار علي الهواء، وحوَّلني مباشرة الي مقدم النشرة الزميل عبد الصمد ناصر، فأكدت له وللمشاهدين أننا تمكَّنا من اختراق الحصار ودخلنا الي مدينة الفلوجة، ونحن الآن في قلبها محاصرين مع أهلها.وقد علمت بعد ذلك أن هذا الاعلان عن قدرتنا علي اختراق الحصار ودخول المدينة كان ضربة قاصمة للقوات الأمريكية التي كانت تحاصرها وتمنع الجميع من دخولها لا سيما الصحافيين، ولم يتمكن أي فريق تليفزيوني آخر من دخول المدينة طوال أيام حصارها سوانا، لكني لم أفصح لأحد في ذلك الوقت علي الاطلاق عن الطريقة التي دخلنا بها، ولم أوردها بالتفصيل الا في هذا الكتاب.وتحدثت في تلك النشرة الي مشاهدي الجزيرة عبر الهاتف عما رأيته للوهلة الأولي، وكان من بين ما قلته: ان المدينة خائفة والناس خائفون وكثير من المحلات مغلقة .
وكان هذا وصفا مجازيا عن حالة الناس، فالاعلام له لغته المختصرة المباشرة والمثيرة والمحفِّزة في نفس الوقت، تلك اللغة التي تنقل الحقيقة الي الناس بعبارات دائماً موجزة ومصورة ومثيرة لأنها تختزل أحداثاً كبيرة في ثوان قليلة. لكني بعد انتهاء هذه النشرة كان بعض أهل الفلوجة يجوبون الأسواق غاضبين بحثاً عني، وكلما مررت بتجمُّع قال الناس لي: لقد مرَّ بعض الناس هنا وسألوا عنك وعن فريق الجزيرة .لم أكن قلقاً، فعادة ما يسأل الناس عنا وربما كان لديهم أخبار أو معلومات يريدون تزويدنا بها، ولم أكن أعلم علي الاطلاق أنهم غاضبون منا، وأخيراً وجدني بعض هؤلاء فقالوا لي وهم غاضبون: كيف تقول عنا أننا خائفون يا أحمد منصور؟ نحن لسنا خائفين، الأمريكيون هم الخائفون، نحن لا نقبل من أحد أن يصفنا بالخائفين، ويجب عليك أن تعتذر عن هذا الوصف الذي وصفتنا به في نشرات الأخبار القادمة .قلت لهم: هل تقبلون أن تسجلوا هذا الكلام أمام الكاميرا وتقولوه بألسنتكم وأنا أبثه في النشرات القادمة؟. قالوا: نعم.
وأذكر أني لم أجد شخصاً واحداً يقبل أن توصف المدينة وأهلها بالخوف، وانما وجدت الجميع وبجرأة كبيرة وبعضهم حتي من الأطفال والعجائز يتحدّون الاحتلال الأمريكي والحصار الذي فرضه علي المدينة بل ويتوعَّدون، بينما استهجن آخرون أن تقوم القوات الأمريكية بمحاصرة ثلاثمئة ألف مدني هم سكان المدينة وأغلبهم من النساء والأطفال والعجائز بحجة تسليم بعض الفتية الذين مثلوا بجثث بعض المرتزقة الأمريكيين الأربعة في الحادي والثلاثين من آذار -مارس.

ليست هناك تعليقات: